الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال صاحب المنازل: باب الغيرة:قال الله تعالى حاكيا عن نبيه سليمان عليه السلام: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} ووجه استشهاده بالآية أن سليمان عليه السلام كان يحب الخيل فشغله استحسانها والنظر إليها لما عرضت عليه عن صلاة النهار حتى توارت الشمس بالحجاب فلحقته الغيرة لله من الخيل إذ استغرقه استحسانها والنظر إليها عن خدمة مولاه وحقه فقال ردوها علي فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف غيرة لله قال الغيرة سقوط الاحتمال ضنا والضيق عن الصبر نفاسة أي عجز الغيور عن احتمال ما يشغله عن محبوبه ويحجبه عنه ضنا به أي بخلا به أن يعتاض عنه بغيره وهذا البخل هو محض الكرم عند المحبين الصادقين وأما الضيق عن الصبر نفاسة فهو أن يضيق ذرعه بالصبر عن محبوبه وهذا هو الصبر الذي لا يذم من أنواع الصبر سواه أو ما كان من وسيلته والحامل له على هذا الضيق مغالاته بمحبوبه وهي النفاسة فإنه لمنافسته ورغبته لا يسامح نفسه بالصبر عنه والمنافسة هي كمال الرغبة في الشيء.ومنع الغير منه إن لم يمدح فيه المشاركة والمسابقة إليه إن محدت فيه المشاركة قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وبين المنافسة والغبطة جمع وفرق وبينهما وبين الحسد أيضا جمع وفرق فالمنافسة تتضمن مسابقة واجتهادا وحرصا والحسد يدل على مهانة الحاسد وعجزه وإلا فنافس من حسدته فذلك أنفع لك من حسده كما قيل:والغبطة تتضمن نوع تعجب وفرح للمغبوط واستحسان لحاله.فصل:قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى غيرة العابد على ضائع.يستر ضياعه ويستدرك فواته ويتدارك قواه العابد هو العامل بمقتضى العلم النافع للعمل الصالح فغيرته على ما ضاع عليه من عمل صالح فهو يسترد ضياعه بأمثاله ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وأنواع القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها فيقضى ما ينفع فيه القضاء ويعوض ما يقبل العوض ويجبر ما يمكن جبره وقوله ويستدرك فواته الفرق بين استرداد ضائعه واستدراك فائته أن الأول يمكن أن يسترد بعينه كما إذا فاته الحج في عام تمكن منه فأضاعه في ذلك العام استدركه في العام المقبل وكذلك إذا أخر الزكاة عن وقت وجوبها استدركها بعد تأخيرها ونحو ذلك وأما الفائت فإنما يستدرك بنظيره كقضاء الواجب المؤقت إذا فات وقته أو يكون مراده باسترداد الضائع واستدراك الفائت نوعي التفريط في الأمر والنهي فيسترد ضائع هذا بقضائه وفعل أمثاله ويستدرك فائت هذا أي سالفه بالتوبة والندم.وأما تدارك قواه فهو أن يتدارك قوته ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله ويتدارك قوى العمل الذي لحقه الفتور عنه بأن يكسوه قوة ونشاطا غيرة له وعليه فهذه غيرة العباد على الأعمال والله أعلم.فصل:قال الدرجة الثانية غيرة المريد وهي غيرة على وقت فات وهي غيرة.قاتلة فإن الوقت وحي التقضي أبي الجانب بطي الرجوع والمريدون هم أرباب الأحوال والعباد أرباب الأوراد والعبادات وكل مريد عابد وكل عابد مريد لكن القوم خصوا أهل المحبة وأذواق حقائق الإيمان باسم المريد وخصوا أصحاب العمل المجرد باسم العابد وكل مريد لا يكون عابدا فزنديق وكل عابد لا يكون مريدا فمراء والوقت عند العابد هو وقت العبادة والأوراد وعند المريد هو وقت الإقبال على الله والجمعية عليه والعكوف عليه بالقلب كله والوقت أعز شيء عليه يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك فإذا فاته الوقت لا يمكنه استدراكه البتة لأن الوقت الثاني فقد استحق واجبه الخاص فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه كما في المسند مرفوعا من أفطر يوما من رمضان متعمدا من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه وقوله وهي غيرة قاتلة يعني مضرة ضررا شديدا بينا يشبه القتل لأن حسرة الفوت قاتلة ولاسيما إذا علم المتحسر أنه لا سبيل له إلى الاستدراك وأيضا فالغيرة على التفويت تفويت آخر كما يقال الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر ولذلك يقال الوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك.ثم بين الشيخ السبب في كون هذه الغيرة قاتلة فقال فإن الوقت وحي التقضي أي سريع الانقضاء كما تقول العرب الوحا الوحا العجل العجل والوحي الإعلام في خفاء وسرعة ويقال جاء فلان وحيا أي مجيئا سريعا فالوقت منقض بذاته منصرم بنفسه فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ومنع مما يحبه ويرتضيه وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه وحيل بينه وبين ما يشتهيه: ويقال إن أصعب الأحوال المنقطعة انقطاع الأنفاس فإن أربابها إذا صعد النفس الواحد صعدوه إلى نحو محبوبهم صاعدا إليه متلبسا بمحبته والشوق إليه فإذا أرادوا دفعه لم يدفعوه حتى يتبعوه نفسا آخر مثله فكل أنفاسهم بالله وإلى الله متلبسة بمحبته والشوق إليه والأنس به فلا يفوتهم نفس من أنفاسهم مع الله إلا إذا غلبهم النوم وكثير منهم يرى في نومه أنه كذلك لالتباس روحه وقلبه فيحفظ عليه أوقات نومه ويقظته ولا تستنكر هذه الحال فإن المحبة إذا غلبت على القلب وملكته أوجبت له ذلك لا محالة والمقصود أن الواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك فإنه عائد عليك لا محالة لهذا يقال للسعداء {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ويقال للأشقياء ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون.فصل:قال الدرجة الثالثة غيرة العارف على عين غطاها غين وسر غشيه.رين ونفس علق برجاء أو التفت إلى عطاء أي يغار على بصيرة غطاها ستر أو حجاب فإن الغين بمنزلة الغطاء والحجاب وهو غطاء رقيق جدا وفوقه الغيم وهو لعموم المؤمنين وفوقه الرين والران وهو للكفار وقوله وسر غشيه رين أي حجاب أغلظ من الغيم الأول والسر هاهنا إما اللطفية المدركة من الروح وإما الحال التي بين العبد وبين الله عز وجل فإذا غشيه رين النفس والطبيعة استغاث صاحبه كما يستغيث المعذب في عذابه غيرة على سره من ذلك الرين وقوله ونفس علق برجاء والتفت إلى عطاء يعني أن صاحب النفس يغار على نفسه إذا تعلق برجاء من ثواب منفصل ولم يتعلق بإرادة الله ومحبته فإن بين النفسين كما بين متعلقهما وكذلك قوله أو التفت إلى عطاء يعني أنه يلتفت إلى عطاء من دون الله فيرضى به ولا ينبغي أن يتعلق إلا بالله ولا يلتفت إلا إلى المعطي الغني الحميد وهو الله وحده والله أعلم. اهـ. .تفسير الآية رقم (34): قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما تقدم أن الناس فريقان: مهتد وضال، وتكرر ذم الضال باجترائه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تتكرر مخالفته لهم؛ كان كأنه قيل: فلم يهلك من يخالفه؟ فقيل وعظًا وتحذيرًا: إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم، ولا يفعلون شيئًا منه إلا بإرادته، فسواء عندهم بقاؤهم وهلاكهم، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر، ولهم أجل لابد من استيفائه، وليس ذلك خاصًا بهم بل {ولكل أمة أجل} وهو عطف على {فيها تحيون وفيها تموتون} [الأعراف: 25] {فإذا جاء أجلهم}.ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل، وكان قطع رجائهم من من جملة عذابهم، قدمه فقال: {لا يستأخرون} أي عن الأجل {ساعة} عبر بها والمراد أقل ما يمكن لأنها أقل الأوقات في الاستعمال في العرف، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله: {ولا يستقدمون} أي على الأجل المحتوم، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم، لم يتجدد له علم، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم، ويجوز أن يكون معطوفًا على قوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [الأعراف: 24] وتكون الآية معلمة بأنهم سيتناسلون فيكثرون حتى يكونوا أممًا، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: في الآية مسائل:المسألة الأولى:أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف، بين أن لكل أحد أجلًا معينًا لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة، والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي.المسألة الثانية:اعلم أن الأجل، هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المُهْلَة، وفي هذه الآية قولان:القول الأول: وهو قول ابن عباس، والحسن ومقاتل أن المعنى أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين، وهو تعالى لا يعذبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقين لعذاب الاستئصال، فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة.والقول الثاني: أن المراد بهذا الأجل العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه، والقول الأول: أولى، لأنه تعالى قال: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ} ولم يقل ولكل أحد أجل وعلى القول الثاني: إنما قال: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ} ولم يقل لكل أحد لأن الأمة هي الجماعة في كل زمان، ومعلوم من حالها التقارب في الأجل، لأن ذكر الأمة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم، وأيضًا فالقول الأول: يقتضي أن يكون لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال عليهم وليس الأمر كذلك لأن أمتنا ليست كذلك.المسألة الثالثة:إذا حملنا الآية على القول الثاني: لزم أن يكون لكل أحد أجل، لا يقع فيه التقديم والتأخير فيكون المقتول ميتًا بأجله، وليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك، ولا أنقص، ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه تعالى عن كونه قادرًا مختارًا، وصيرورته كالموجب لذاته، وذلك في حق الله تعالى ممتنع بل المراد أنه تعالى أخبر أن الأمر يقع على هذا الوجه.المسألة الرابعة:قوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} المراد أنه لا يتأخر عن ذلك الأجل المعين لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة إلا أنه تعالى ذكر الساعة لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات.فإن قيل: ما معنى قوله: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} فإن عند حضور الأجل امتنع عقلًا وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم عليه.قلنا: يحمل قوله: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} على قرب حضور الأجل.تقول العرب: جاء الشتاء، إذا قارب وقته، ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك تارة، والتأخر عنه أخرى. اهـ.
|